فصل: تفسير الآيات (16- 27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (12- 15):

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
هو بيان للطرف المقابل للذين كفروا بربهم، والذين عرضتهم الآيات السابقة وعرضت أحوالهم، وما يلقون من هوان وعذاب يوم القيامة.
وكما أن في الآخرة عذابا، فإن فيها رحمة ورضوانا، كما يقول سبحانه:
{وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ} [20: الحديد].
وإذا كان للذين كفروا بربهم، عذاب جهنم وبئس المصير، فإن للذين آمنوا، مغفرة وأجرا عظيما.
والذين يخشون ربهم بالغيب، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة، وخافوا لقاء ربهم، قبل هذا اليوم الغائب عنهم.. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم في سرهم، كما يخشونه في علانيتهم، حيث يشهدون سلطان اللّه قائما عليهم في كل حال من أحوالهم. فهم لشهودهم هذا السلطان، لا يعصون اللّه، ولا يفعلون ما لا يرضاه، وهم لهذا مجزبّون من اللّه تعالى، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم، وهم على خشية من اللّه، كما يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ} [60: المؤمنون].
وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات.. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} هو بيان شارح، ودعوة إلى الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
أي أن سبحانه وتعالى، عالم بما نحفى وما نعلن، مطلع على ما نعمل في سر أو جهر.. وإذن فليكن سلطان اللّه مشهودا لنا في كل حال.. وأنه إذا كنا لا نجاهر بالمنكر أمام الناس، فكيف نجاهر بالمعاصي أمام اللّه؟ فليس فيما نفعل أو نقول، سرّ بالنسبة إلى اللّه سبحانه، بل كل أعمالنا وأقوالنا، هي جهر منّا بين يديه، على أية حال لنا.. {سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ} [10: الرعد].. فمن ترك المعاصي جهرا، ولم يتركها سرّا، فهو إنما يفعل ذلك خوفا من الناس، لا من خشية اللّه، وفى ذلك استخفاف بجلال اللّه، وسوء أدب مع اللّه.
قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
هو تقرير لما جاء في قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
فإن علم اللّه سبحانه وتعالى بما نسرّ وما نجهر به من قول- أمر لا يصحّ أن ينكره أو يشك فيه عاقل.. فنحن صنعة اللّه.. من التراب، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى أن نصبح بشرا سويا.. وإذا كان ذلك شأن اللّه فينا- أفيخفى على اللّه بعد ذلك شيء من ظاهرنا، أو باطننا؟ أفيخفى على الصانع شيء من أسرار ما صنع؟ أيخفى على صانع آلة من الآلات البخارية، أو الكهربية، أىّ جزء من أجزائها.. دقّ، أو عظم؟ ألا يعلم السرّ في كل حركة من حركاتها، أو سكنة من سكناتها؟ ألا يعلم لم تتحرك، ولم تسكن؟.
فإذا كان ذلك كذلك فيما يخلق المخلوقون، فكيف لا يكون هذا الربّ العالمين، وخالق المخلوقين؟.
فالاستفهام في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} استفهام تقريرى.
وقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} صفتان من صفات اللّه تعالى.
تكشفان عن سعة علمه، ونفوذ هذا العلم إلى أعمق أعماق الوجود.. فهو علم {اللطيف} الذي لا يحجب عنه شيء {الخبير} الذي لا تخفى عليه حقيقة أي شيء.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.
هو خطاب للناس جميعا، وإلفات لهم إلى فضل اللّه عليهم، وإحسانه إليهم، إذ خلقهم، وأقامهم على خلافة الأرض، وجعل الحياة فيها ذلولا لهم، أي مذللة، ميسرة لهم، بما أوجد فيها من أسباب الحياة، وأدوات العمل للعاملين فيها.
وقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} هو دعوة إلى العمل في هذه الحياة، وإلى السعى في الأرض، والضرب في وجوهها المختلفة.. فاللّه سبحانه قد وضع بين أيدى الناس خيرات كثيرة ممدودة على بساط هذه الأرض، وعليهم هم أن يتحركوا في كل وجه على هذا البساط، وأن يمدّوا أيديهم إلى كل شيء يقدرون عليه من هذا الخير، فإن هم لم يفعلوا، فقد بخسوا أنفسهم حقها من الحياة الكريمة على هذه الأرض، ونزلوا إلى درجة الحيوانات التي تأكل من حشائشها، وخسيس ثمارها.
ومناكب الأرض، هي أجزاؤها العليا فيها، أشبه بمنكبي الإنسان، وهما جانبا الكتفين.. وهذا يعنى أن يستدعى الإنسان قواه كلها، وأن يعمل في الحياة عملا جادّا، يحشد له طاقانه الجسدية والعقلية، حتى يأخذ مكانا متمكنا من الأرض، يستطيع به أن يقهر قوى الطبيعة فيها، وأن يقودها بقوته، وأن يتحكم فيها بسلطانه.. فهذا هو مكان الإنسان الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده بين المخلوقات فيها.. إنه الخليفة على هذه الأرض، ومقام الخلافة يقتضيه أن يأخذ مكان الصدارة فيها، وأن يجلس مجلس السلطان من رعيته.
وفى تعدية الفعل {امشوا} بحرف الجر {فى} بدلا من {على} إشارة إلى أن ينفذ الإنسان في أعماق هذه المناكب، وإلى أن يعمل على كشف أسرارها، لا مجرد اتخاذها طريقا يمشى عليه.
وقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} هو خاتمة مطاف الإنسان، بعد انتهاء رحلته في الأرض.. فهو بعد هذه الرحلة، تطوى صفحة وجوده على الأرض، ثم تنشر حياته من جديد، بين يدى اللّه في الحياة الآخرة.

.تفسير الآيات (16- 27):

{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآية السابقة كانت دعوة موجهة من اللّه سبحانه وتعالى إلى الناس جميعا، أن يأخذوا أما كنهم من الأرض، وأن يعملوا قواهم كلها فيما أودع اللّه لهم فيها من خير، ليقطفوا من ثمارها، ويأكلوا من طيباتها.. وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.
وهذه الأرض التي مكّن اللّه سبحانه للناس من السعى فيها- من يمسكها أن أن تميد بهم؟ ومن يحفظ وجودهم عليها، فلا تفتح فاها لتبتلعهم؟ أليس ذلك من تدبير الحكيم العليم؟ ومن رحمة الرحمن الرحيم؟!.
فما بال هؤلاء المشركين لا يؤمنون باللّه، وقد جاءهم رسول كريم يدعوهم إلى اللّه، ويحمل بين يديه كتابا منيرا، تنطق كل آية من آياته بمعجزة قاهرة متحدّية؟.
أأمنوا أن يخسف اللّه بهم الأرض، فإذا هي {تمور} أي تضطرب وترتجف بما يحدثه هذا الخسف من انقلاب، تفقد به توازنها، وتلقى بهم من فوق ظهرها؟ أأمنوا عذاب اللّه أن ينزل بهم وهم على هذه الأرض، وقد حادّوا اللّه وحاربوه..؟
والمور: الاضطراب الشديد، المنبعث من رجّة عظيمة، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً} [9: الطور].
وفى قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّماءِ} إشارة إلى علوّ سلطان اللّه، اللّه، وإلى تمكّنه منهم.. وليس في هذه المكانية تحديد لوجود اللّه، وإنما هي إشارة إلى علوّ سلطانه، وتمكن قدرته.
وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}.
الحاصب: ما يحصب به، أي يقذف به من حصا ونحوه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للكافرين والمشركين: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [98: الأنبياء].
أي أنهم يلقون فيها كما يلقى الحصا.. ومنه الحصباء، وهى دقاق الحصا.
وفى الآية، تهديد للمشركين بأن يرموا من بالسماء بالصواعق والرجوم، إن لم تأخذهم الأرض بالزلازل والخسف.. فهم واقعون تحت البلاء، يأخذهم من السماء، أو يأتيهم من الأرض، أو من السماء والأرض معا.
فكيف يبيتون على أمن من هذا البلاء، وهم على عداوة ظاهرة للّه، وفى حرب سافرة معه، ومع رسوله، ومع أوليائه المؤمنين به..؟
وفى قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} تهديد بعد تهديد، بأنهم إن أمهلهم اللّه سبحانه، فلم يعجل لهم العقاب، فإن عقاب اللّه راصد لهم، إن لم يلقهم اليوم فغدا، وإن لم يأخذهم به في الدنيا، أخذهم به في الآخرة، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ}.
وفى هذا إلفات للمشركين إلى ما كان للّه سبحانه من نقم، ومن مهلكات أرسلها على الذين كفروا من قبلهم.. فلينظروا في آثار هؤلاء الذين كفروا من قبلهم، وليشهدوا كيف كان أخذ اللّه لهم، بعد أن أتوا ما أنكره اللّه تعالى عليهم من منكررات.. إذ ليس وراء هذا الإنكار من اللّه، إلا الانتقام والعذاب.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}.
هو دعوة مجدّدة إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر في موقفهم الضال عن طريق الهدى، بعد أن طالت مسيرتهم في هذا الطريق المنحرف، وبعد أن أصبحوا في معرض سخط اللّه، ونقمته.. فتلك هي فرصتهم الأخيرة، إن أفلتت منهم، ولم يستقيموا على الطريق المستقيم، فليس لهم بعد هذا إلا أن يردوا موارد الهالكين.
والدعوة التي يدعى إليها المشركون هنا، للإيمان باللّه، والاستقامة على طريق الحق- هي دعوة موجهة إلى عقولهم التي غطّى عليها الجهل والضلال، وذلك بأن يوقظوا هذه العقول، وأن ينظروا بها إلى آيات اللّه التي بين أيديهم من صحف الوجود، بعد أن أصمّوا آذانهم عن آيات اللّه التي تتلى عليهم.
وآيات اللّه التي بين أيديهم كثيرة لا يحصرها عدّ.
ثم إنه لكيلا تزيغ أبصارهم، ولا تضطرب عقولهم أمام هذه الآيات الكثيرة- فها هي ذى آية وضعها اللّه تعالى بين أيديهم، ودعاهم إلى النظر فيها، وتقليبها على جميع وجوهها.
فلينظروا إلى الطير، وقد صفت أجنحتها- أي بسطتها في جو السماء- ثم لينظروا إليها، وقد قبضت هذه الأجنحة، أو ضمتها، وهى في حالتيها تلك، محلقة في الجو، سابحة في السماء، لا تسقط، كما تسقط الأجسام من أعلى إلى أسفل.
لينظروا إلى الطير في حاليها تلك.. فماذا يقع في عقولهم من هذا النظر، إن كان لهم نظر، وكانت لهم عقول؟.
من يمسك هذه الطير؟ ومن منحها تلك القدرة على أن تسبح في السماء. ومن يمسكها أن تسقط من الجو؟ {ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}.
فأين أبصارهم؟ وأين ما تعطيه هذه الأبصار من شواهد على وجودها..؟
قوله تعالى: {أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}.
وإذا لم يستجب المشركون لهذه الدعوة التي يدعون فيها إلى آيات اللّه وإلى الإيمان به- فعلى أي شيء يعوّلون في الخلاص من نقمة اللّه وعذابه.
ألهم جند ينصرونهم من دون اللّه، ويدفعون عنهم بأسه إذا وقع بهم؟
إنهم لمخدعون مغرورون، إن كان ذلك من أمانيّهم، ومن متعلقاتهم ظنونهم، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [18: يونس].
و{إن} في قوله تعالى: {إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} حرف يفيد النفي، بمعنى {ما} أي ما الكافرون إلا في غرور، يحتويهم، ويشتمل عليهم.
قوله تعالى: {أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}.
وهذا سؤال آخر، مطلوب من المشركين أن يجدوا له جوابا:
من يرزقهم إن أمسك اللّه الرزق عنهم؟ هل من رازق لهم غير اللّه؟
إن هذه الوقفات مع المشركين، وهذه المراجعة التي يراد بها الكشف عن آفات الضلال المسلطة عليهم، لا تزيدهم إلا بعدا عن الحقّ، وإلا عتوّا وعنادا، ولجاجا في العناد والكفر.
واللجاج في الشيء: الإغراق فيه. ومجاوزة الحدّ.. والعتو:
العناد الشديد.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}؟
وهذه بديهة من البديهيّات، توضع موضع القضايا المطلوب من المشركين النطر فيها، والوصول إلى حكم لها.. وذلك بعد أن عجزت عقولهم عن أن تنظر فيما ينظر فيه العقلاء!.
والقضية هى:
أىّ أهدى سبيلا، وأسلم عاقبة.. من يمشى مكبّا على وجهه، لا يرى ما بين يديه، ولو كان هاوية يهوى إليها، أو وحلا يغوص فيه- أم الذي يمشى مفتّح العينين، رافع الرأس، مستقيم الخطا؟.
وفى هذا استخفاف بعقولهم، وإنزالهم منزلة الأطفال الذين يلقّنون المعلومات تلقينا.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جاء تلقينا لهم، وإلزاما إياهم بتلك الحقائق، سواء عقلوها أو لم يعقلوها.
فالإله الذي حدثتهم الآيات السابقة عنه، ودعتهم إلى النظر في آياته، وإلى الإجابة على عدد من الأسئلة التي من شأن العقلاء أن يسألوها أنفسهم، وأن يتولّوا الإجابة عليها، في سبيل التعرف على اللّه- هذا الإله، هو الذي جعل لهم السمع، والأبصار، والعقول.. ولكن كثيرا من الناس لا يشكرون اللّه تعالى على هذه النعم بل ولا يعترفون به ربّا، وفى هذا يقول سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} [13: سبأ].
وهذا الإله، هو الذي ذرأ الناس، أي خلقهم، وأقامهم على هذه الأرض وبثّهم فيها، وهو الذي سيحشرهم إليه بعد موتهم.
والذرء: الخلق، وذرأ الشيء: كثّره وبثه.
هذه حقائق، مطلوب من الرسول أن يبلغها الناس جميعا. فمن صدّق وآمن، فقد اهتدى، وسلم.. ومن أعرض وكفر، فقد ضلّ وخسر.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
هو بيان لما انتهى إليه أمر هؤلاء المشركين، بعد هذه الوقفة الطويلة معهم، وبعد هذه المراجعة لحسابهم المغلوط، الذي اطمأنوا إليه.. إنّ كل هذا لم يزحزحهم عن موقف الضلال الذي هم فيه.. وإنهم مازالوا على تكذيبهم بالبعث، والحساب والجزاء، فيسألون هذا السؤال، الذي يدل على رفضهم لكل ما قدم إليهم من أدلة، وما عرض عليهم من آيات:
{مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
يقولون هذا في استهزاء وسخرية.
وكأنهم يقولون النبي، وللمؤمنين: دعونا من كل هذا الذي تخوضون فيه، وقولوا لنا: متى هذا الوعد؟ أي متى يوم القيامة الذي تقولون عنه وتجعلونه موعدا للحساب والجزاء؟ متى يومه؟ إن كنتم صادقين في هذا الزعم، فحددوا له موعدا لهذا اليوم، طال هذا الموعد أم قصر.
أما إطلاق هذا اليوم ضالّا في غياهب الغيب، فهذا دليل على أن الحديث عن هذا اليوم، هو حديث مكذوب، وقول مفترى.
إذ لو أنه كان حديثا قائما على واقع من الحق، لعلم المتحدّث به، الموعد الذي يقع فيه.. أما أن يتحدث متحدث عن أمر سيقع، ثم لا يربط هذا الحديث عنه بزمن معلوم، فذلك رجم بالغيب، أشبه بأخبار الكهان والمنجّمين.
هكذا كانوا يفكّرون ويقدّرون.
وقد جاءهم الرد المفحم في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
إن الرسول لم يقل لهم يوما إنه يعلم الغيب، أو أنه إله مع اللّه، وإنما بادأهم من أول الأمر، بما أمره اللّه سبحانه أن يلقاهم به في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ} [110: الكهف].. وقوله سبحانه:
{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ} [15: يونس].
وإذ كان هذا شأنه، فإنه لا يعلم من أمر الساعة شيئا: {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي} [187: الأعراف].
إن موعد الساعة فرع من أصل، وجزئية من أمر كلىّ، هو الساعة ذاتها، أي القيامة والبعث، والحساب والجزاء.. هذه هي القضية.. فإن آمنوا بها إيمان غيب، فإن من تمام هذا الإيمان أن يؤمنوا بكل ما جاء في القرآن عنها.. وإن لم يؤمنوا بها أصلا، فلا معنى إذن لأن يسألوا عن متعلقاتها.
قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ}.
إنه يوم آت لا ريب فيه، ولكن اقتضت حكمة اللّه أن يخفى ميقاته، كما يقول سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} [15: طه].
فلو كشف هذا اليوم للناس لفسد نظامهم، واضطربت حياتهم، ولو كان بينهم وبينه مئات السنين أو ألوفها، تماما كما لو عرف الإنسان اليوم الذي يموت فيه.. إنه بهذا الكشف، يموت كل يوم مئات المرات، ولو كان بينه وبين الموت عشرات السنين.
وفى الحديث عن رؤية المشركين لهذا اليوم بصيغة الماضي {رأوه}، وهم مازالوا في هذه الدنيا، وفى إنكار، وتكذيب له- في هذا إهمال لإنكارهم، وعدم اعتداد بمعتقدهم الفاسد في أمر البعث، ثم سوقهم إليهم سوقا في الدنيا وهم متلبسون بهذا الإنكار، فإذا هم بين يدى ما ينكرون.
وقوله تعالى: {زلفة} أي دانيا، وقريبا منهم، بحيث يعاينونه، ويقعون تحت سلطانه.. ومنه قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [90- الشعراء] أي دنت وقربت لهم، لتكون بين أيديهم.
وقوله تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي حلّ بها السوء، ونزل بها الكرب.
وإسناد السوء إلى الوجوه، لأنها هي التي تتجلّى على صفحتها آثار المشاعر، والأحاسيس، والأفكار التي تدور في كيان الإنسان، من فرح أو حزن، ومن لذة أو ألم.
وفى إقامة {الذين كفروا} بدلا من ضميرهم، ليكون في ذلك مواجهة لهم بهذا الذي يسؤوهم، وليبين السبب الذي من أجله حلت بهم المساءة.. وهو أنهم كانوا كافرين.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي أنه حين يلقاهم هذا اليوم، ويقع عليهم منه ما يقع من فزع وكرب، يلقاهم من يقول لهم:
{هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} أي هذا الذي كنتم تطلبونه، وتلحّون في الكشف عن وجهه... فها هو ذا قد جاءكم.. فلم تنكرونه؟ ولم تفزعون منه؟
وهل يفزع المرء من أمر كان شديد اللهف على لقائه؟
و{تدعون} معناه تطلبون، وتتمنون.. ومنه قوله تعالى عن أصحاب الجنة: {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} [31: فصلت].
وفى تعدية الفعل تدعون بحرف الجر الباء.
{به تدعون} وهو متعدّ بنفسه- لتضمّنه معنى الفعل: تهتفون أو تستعجلون.
ونحوهما، مما يدل على شدة الرغبة للشيء، والطلب له.